الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)} هذا ابتداء قصص في غيوب وعبر وليس بمثال لقريش، و{داود} من بني إسرائيل وكان ملكاً {وورث سليمان} ملكه ومنزلته من النبوءة بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثاً تجوزاً، وهذا نحن قولهم العلماء ورثة الأنبياء، وحقيقة الميراث في المال والأنبياء لا تورث أموالهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة»، ويحتمل قوله عليه السلام «إنا معشر الأنبياء لا نورث» أن يريد به أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم وإن كان فيهم من ورث ماله كزكرياء على أشهر الأقوال فيه، وهذا كما تقول: إنا معشر المسلمين إنما شغلنا العبادة، فالمراد أن ذلك فيه فعل الأكثر، ومنه ما حكى سيبويه أنا معشر العرب أقرى الناس لضيف. وقوله {علمنا منطق الطير} إخبار بنعمة الله عندهما في أن فهمهما من أصوات الطير المعاني التي نفوسها، وهذا نحو ما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يسمع أصوات الحجارة بالسلام وسليمان عليه السلام حكى عن البلبل أنه قال: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء إلى كثير من هذا النوع وقال قتادة والشعبي وغيره: إنما كان هذا الأمر في الطير خاصة والنملة طائر قد يوجد له الأجنحة، قال الشعبي: وكذلك كانت هذه القائلة ذات جناحين، وقالت فرقة: بل كان في جميع الحيوان وإنما ذكر الطير لأنه كان جنداً من جنود سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص لكثرة مداخلته ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد أمْر الطير، والنمل حيوان فطن قويّ شمام جداً يدخر القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت ويشق الكزبرة بأربع قطع لأنها تنبت إذا قسمت شقين ويأكل في عامه نصف ما جمع، ويستبقي سائره عُدَّه، وقوله {وأوتينا من كل شيء} معناه يصلح لنا ونتمناه وليست على العموم، ثم ردد شكر فضل الله تعالى، ثم قص تعالى حال سليمان فقال: {وحشر لسليمان} أيْ جمع واختلف الناس في مقدار جند سلمان عليه السلام اختلافاً شديداً لم أر ذكره لعدم صحة التحديد، غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيماً ملأ الأرض وانقادت له المعمورة وكان كرسيه يحمل أجناده من الإنس والجن، وكانت الطير تظله من الشمس ويبعثها في الأمور، وكان له في الكرسي الأعظم موضع يخصه، و{يوزعون} معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويُكَفُّون، وقال قتادة فكان لكل صنف وزعة في رتبهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها فرب وقت كان يسير فيه في الأرض، ومنه قول الحسن الصبري حين ولي قضاء البصرة: لا بد للحاكم من وزعة، ومنه قول أبي قحافة حين وصفت له الجارية في يوم الفتح أنها ترى سواداً أمامه فارس قد نهد من الصف فقال لها: ذلك الوازع، ومنه قول الشاعر [النابغة الذبياني]: [الطويل] على حين عاتبت المشيب على الصبا *** وقلت ألمّا أصح والشيب وازع أي كافٍ.
{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)} ظاهر هذه الآية أن سليمان وجنوده كانوا مشاة في الأرض، وبذلك يتفق حطم النمل، ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح وأحست النمل بنزولهم في {واد النمل}، وأمال أبو عمرو الواو من {واد}، والجميع فخم، وبالإمالة قرأ ابن إسحاق، وقرأ المعتمر بن سليمان عن أبيه «النمُل» بضم الميم كالسمر، و«قالت نَمُلة» بالضم كسمرة، وروي عنه ضم النون والميم من «النُّمُل»، وقال نوف البكالي: كانت تلك النملة على قدر الذئاب وقالت فرقة: بل كانت صغاراً. قال القاضي أبو محمد: والذي يقال في هذا أن النمل كانت نسبتها من ذلك الخلق نسبة هذا النمل منا فيحتمل أن كان الخلق كله أكمل، وهذه النملة قالت هذا المعنى الذي لا يصلح له إلا هذه العبارة قولاً فهمه عنها النمل، فسمعها سليمان على بعده، وجاءت المخاطبة كمن يعقل، لأنها أمرتهم بما يؤمر به من يعقل، وروي أنه كان على ثلاثة أميال {فتبسم} من قولها، والتبسم ضحك الأنبياء في غالب أمرهم لا يليق بهم سواه، وكان تبسمه سروراً، واختلف بما كان، فقالت فرقة بنعمة الله في إسماعه وإفهامه ونحو ذلك، وقالت فرقة بثناء النملة عليه وعلى جنوده في أن نفت عنهم تعمد القبيح من الفعل فجعلت الحطم {وهم لا يشعرون}، وقرأ شهر بن حوشب «مسْكنكم» بسكون السين على الإفراد، وفي مصحف أبي «مساكنكن»، و{ضاحكاً} نصب على الحال، وقرأ محمد بن السميفع «ضحكاً» وهو نصب على المصدر إما ب «تبسم» على مذهب المبرد إذ هو في معنى ضحك، وإما بتقدير ضحك على مذهب سيبويه، وقرأ جمهور القراء «لا يحْطمنّكم» بشد النون وسكون الحاء، وقرأ أبو عمرو وفي رواية عبيد «لا يحطمنْكم» بسكون النون وهي قراءة ابن أبي إسحاق، وقرأ الحسن وأبو رجاء «لا يُحَطِّمنّكم» بضم الياء وفتح الحاء وكسر الطاء وشدها وشد النون وعنه أيضاً «يَحِطِّمنكم» بفتح الياء وكسر الحاء والطاء وشدها، وقرأ الأعمش وطلحة «لا يحطمكم» مخففة بغير نون، وفي مصحف أبي بن كعب «لا يحطمنكن» مخففة النون التي قبل الكاف، ثم دعا سليمان إلى ربه في أن يعينه الله تعالى ويفرغه إلى شكر نعمته وهذا هو معنى «إيزاع الشكر»، وباقي الآية بين.
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)} اختلف الناس في معنى «تفقده الطير»، فقالت فرقة ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والتهمم بكل جزء منها. قال القاضي أبو محمد: وظاهر الآية أنه تفقد جميع الطير، وقالت فرقة: بل «تفقد الطير» لأن الشمس دخلت من موضع {الهدهد} حين غاب، فكان ذلك سبب تفقد الطير ليبين من أين دخلت الشمس، وقال عبد الله بن سلام إنما طلب {الهدهد} لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كَم هو من وجه الأرض، لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن {الهدهد} كان يرى باطن الأرض وظاهرها كانت تشف له وكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ شاة قاله ابن عباس فيما روي عن أبي سلام وغيره، وقال في كتاب النقاش كان {الهدهد} مهندساً، وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يقول هذا فقال له: قف يا وقاف كيف يرى {الهدهد} باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه. فقال له ابن عباس رضي الله عنه: إذا جاء القدر عمي البصر. وقال وهب بن منبه: كانت الطير تنتاب سليمان كل يوم من كل نوع واحد نوبة معهودة ففقد {الهدهد}، وقوله {ما لي لا أرى} إنما مقصد الكلام {الهدهد} غاب لكنه أخذ اللام عن مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز، والاستفهام الذي في قوله {ما لي}، ناب مناب الألف التي تحتاجها أم، ثم توعده عليه السلام بالعذاب، وروي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن تنتف، قال ابن جريج: ريشه أجمع، وقال يزيد بن رومان: جناحاه، وروي ابن وهب أنه بأن تنتف أجمع وتبقى بضعة تنزو، و«السلطان» الحجة حيث وقع في القرآن، قاله عكرمة عن ابن عباس، وقرأ ابن كثير وحده «ليأتينني» بنونين، وفعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظاً عن العاصين وعقاباً على إخلاله بنوبته ورتبته، وقرأ جمهور القراء، «فمكُث» بضم الكاف، وقرأ عاصم وحده «فمكَث» بفتحها، ومعناه في القراءتين أقام، والفتح في الكاف أحسن لأنها لغة القرآن في قوله {ماكثين} [الكهف: 3] إذ هو من مكَث بفتح الكاف، ولو كان من مكُث بضم الكاف لكان جمع مكيث، والضمير في «مكث» يحتمل أن يكون لسليمان أو ل {الهدهد}، وفي قراءة ابن مسعود «فتمكث ثم جاء فقال» وفي قراءة أبي بن كعب «فتمكث» ثم قال {أحطت} وقوله {غير بعيد} كما في مصاحف الجمهور يريد به في الزمن والمدة، وقوله {أحطت} أي علمت علماً تاماً ليس في علمك، واختلف القراء في {سبأ}، فقرأ جمهور القراء «سبأ» بالصرف. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سبأ» بفتح الهمزة وترك الصرف، وقرأ الأعمش «من سبإ» بالكسر وترك الصرف وروى ابن حبيب عن اليزيدي «سبا» بألف ساكنة، وقرأ قنبل عن النبال بسكون الهمزة، فالأولى على أنه اسم رجل وعليه قول الشاعر: [البسيط] الواردون وتيم في ذرى سبإ *** قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس وقال الآخر: «من سبأ الحاضرين مآرب»، وهذا على أنها قبيلة والثانية على أنها بلدة، قاله الحسن وقتادة، وكلا القولين قد قيل، ولكن روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث فروة بن مسيك وغيره أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد تيامن منهم ستة، وتشاءم أربعة، وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشوى، والثالثة على البناء والرابعة والخامسة لتوالي الحركات السبع فسكن تخفيفاً للتثقيل في توالي الحركات، وهذه القراءة لا تبنى على الأولى بل هي إما على الثانية أو الثالثة، وقرأت فرقة «بنبأ» وقرأت فرقة دون تنوين على الإضافة، وقرأت فرقة «بنبا» بالألف مقصورة وقوله {وأوتيت من كل شيء} مبالغة أي مما تحتاج المملكة قال الحسن: من كل أمر الدنيا، ووصف عرشها بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان، وروي عن نافع الوقف على {عرش} ف {عظيم} على هذا يتعلق بما بعده، وهذه المرأة هي بلقيس بنت شراحيل فيما قال بعضهم، وقيل بنت الفشرح، وقيل كانت أمها جنية، وأكثر بعض الناس في قصصها بما رأيت اختصاره لعدم صحته وإنما اللازم من الآية أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن ذات ملك عظيم وكانت كافرة من قوم كفار.
{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} كانت هذه الأمة أمة تعبد الشمس لأنهم كانوا زنادقة فيما روي، وقيل كانوا مجوساً يعبدون الأنوار، وقوله {ألا يسجدوا} إلى قوله {العظيم} ظاهره أنه من قول الهدهد، وهو قول ابن زيد وابن إسحاق ويعترض بأنه غير مخاطب، فكيف يتكلم في معنى شرع، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى اعتراضاً بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل، وقراءة التشديد في «ألاَّ» تعطي أن الكلام للهدهد، وقراءة التخفيف تمنعه وتقوي الآخر حسبما يتأمل إن شاء الله، وقرأ جمهور القراء «ألا يسجدوا» ف «أن» في موضع نصب على البدل من {أعمالهم} وفي موضع خفض على البدل من {السبيل} أو يكون التقدير لأن لا يسجدوا ف «أن» متعلقة إما ب «زين» وإما ب «صدهم»، واللام الداخلة على «أن» داخلة على مفعول له، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر والزهري وأبو عبد الرحمن والحسن والكسائي وحميد: «ألا» على جهة الاستفتاح ووقف الكسائي من هذه الفرقة على يا، ثم يبتدئ «اسجدوا»، واحتج الكسائي لقراءته هذه بأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه موضع سجدة. قال القاضي أبو محمد: وهذه القراءة مقدر فيها النداء والمنادى محذوف تقديره إن جعلناه اعتراضاً يا هؤلاء ويجيء موضع سجدة، وإن جعلناه من كلام الهدهد يا قوم أو يا عقلاء ونحو هذا ومنه قول الشاعر: «ألا يا سلمي» يا دار ميَّ على البلا إلخ.. البيت، ونحو قول الآخر وهو الأخطل: [الطويل] ألا يا أسلمي يا هند هند بني بدر *** وإن كان حيانا عدًى آخر الدهر ومنه قول الآخر: فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطة *** فقلت سمعنا فاسمعي واصمتي ويحتمل قراءة من شدد: «ألاَّ» أن يجعلها بمعنى التخصيص، ويقدر هذا النداء بعدها ويجيء في الكلام إضمار كثير ولكنه متوجه، وسقطت الألف كما كتبت في يا عيسى ويا قوم، وقرأ الأعمش «هل لا يسجدون»، وفي حرف عبد الله بن معسود «ألا هل تسجدون» بالتاء، وفي قراءة أبيّ: «ألا هل تسجدوا» بالتاء أيضاً، و{الخبء} الخفي من الأمور وهو من خبأت الشيء، و«خبء» السماء مطرها، و«خبء» الأرض كنوزها ونباتها، واللفظة بعد هذا تعم كل خفيّ من الأمور وبه فسر ابن عباس، وقرأ جمهور الناس «الخبْء» بسكون الباء والهمز، وقرأ أبي بن كعب «الخبَ، بفتح الباء وترك الهمز، وقرأ عكرمة» الخبا «بألف مقصورة، وحكى سيبويه أن بعض العرب يقلب الهمزة إذا كانت في مثل هذا مفتوحة وقبلها ساكن يقلبها ألفاً، وإذا كانت مضمومة وقبلها ساكن قلبها واواً، وإذا كانت مكسورة قلبها ياء ومثل سيبويه ذلك بالوثا والوثو والوثي، وكذلك يجيء {الخبء} في حال النصب وتقول اطلعت على الخبي وراقني الخبو وقرأ جمهور القراء» يخفون «و» يعلنون «بياء الغائب. قال القاضي أبو محمد: وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد، وقرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص «تخفون وما تعلنون» بتاء الخطاب، وهذه القراءة تعطي أن الآية من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مصحف أبي بن كعب «ألا يسجدوا والله الذي يخرج الخبء من السماوات والأرض ويعلم سركم وما تعلنون»، وخصص {العرش} بالذكر في قوله {رب العرش العظيم} لأنه أعظم المخلوقات، وما عداه في ضمنه وقبضته، ثم إن سليمان عليه السلام أخَّر أمر الهدهد إلى إن يبين له حقه من باطله فسوفه بالنظر في ذلك وأمر بكتاب فكتب وحمله إياه وأمره بإلقائه إلى القوم والتولي بعد ذلك، وقال وهب بن منبه أمره بالتولي حسن أدب، ليتنحى حسبما يتأدب به مع الملوك بمعنى وكن قريباً حتى ترى مراجعاتهم، وقال ابن زيد: أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه أي ألقه وارجع، قال وقوله {فانظر ماذا يرجعون} في معنى التقديم على قوله {ثم تول}. قال القاضي أبو محمد: واتساق رتبه الكلام أظهر أي «ألقه ثم تول» وفي خلال ذلك {فانظر} وإنما أراد أن يكل الأمر إلى علم ما في الكتاب دون أن تكون للرسول ملازمة ولا إلحاح. وقرأ نافع «فألقِه» بكسر الهاء، وفرقة «فألقهُ» بضمها، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي بإشباع ياء بعد الكسرة في الهاء، وروى عنه ورش بياء بعد الهاء في الوصل، وقرأ قوم بإشباع واو بعد الضمة، وقرأ البزي عن أبي عمرو وعاصم وحمزة «فألقهْ» بسكون الهاء، وروي عن وهب بن منبه في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدرات فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عن طلوعها لمعنى عبادتها إياها فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي فيما يروى نائمة، فلما انتبهت وجدته فراعها وظنت أنه قد دخل عليها أحد ثم قامت فوجدت حالها كما عهدته فنظرت إلى الكوة تهمماً بأمر الشمس فرأت الهدهد فعلمت أمره ثم جمعت أهل ملكها وعلية قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد.
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)} في هذا الموضع اختصار لما يدل ظاهر القول عليه تقديره فألقى الكتاب وقرأته وجمعت له أهل ملكها، و{الملأ} أشراف الناس الذين ينوبون مناب الجميع، ووصفت «الكتاب بالكرم» إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالاً لسليمان، وهذا قول ابن زيد، وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كرم الكتاب ختمه» وإما إن أرادت أنه بدئ {بسم الله} ف {كريم} ضد أجْذم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل كلام لم يبدأ باسم الله تعالى فهو أجذم»، ثم أخذت تصف لهم ما في الكتاب فيحتمل اللفظ أنه نص الكتاب موجزاً بليغاً وكذلك كتب الأنبياء وقدم فيه العنوان وهي عادة الناس على وجه الدهر، ثم سمى الله تعالى، ثم أمرهم بأن لا يعلوا عليه طغياناً وكفراً وأن يأتوه {مسلمين}، ويحتمل أنها قصدت إلى اقتضاب معانيه دون ترتيبه فأعلمتهم {أنه من سليمان} وأن معنى ما فيه كذا وكذا، وقرأ أبيّ «وأن بسم الله» بفتح الهمز وتخفيف النون وحذف الهاء، وقرأ ابن أبي عبلة «أنه» من «وأنه» بفتح الهمزة فيهما، وفي قراءة عبد الله «وأنه من سليمان» بزيادة، و{بسم الله الرحمن الرحيم}، استفتاح شريف بارع المعنى معبر عنه بكل وفي كل شرع، و{أن} في قوله تعالى: {أن لا تعلوا علي} يحتمل أن تكون رفعاً على البدل من {كتاب}، أو نصباً على معنى «بأن لا تعلوا»، أو مفسرة بمنزلة أي قاله سيبويه، وقرأ وهب بن منبه «أن لا تغلوا» بالغين منقوطة، قال أبو الفتح رواها وهب عن ابن عباس وهي قراءة الأشهب العقيلي ذكرها الثعلبي ثم أخذت في حسن الأدب مع رجالها ومشاورتهم في أمرهم وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر فكيف في هذه النازلة الكبرى، فراجعها الملأ بما يقر عينها من إعلامهم إياها ب «القوة والبأس» أي وذلك مبذول إليك فقاتلي إن شئت، ثم سلموا الأمر إلى نظرها وهذه محاورة حسنة من الجميع، وفي قراءة عبد الله «ما كنت قاضية أمراً» بالضاد من القضاء، وذكر مجاهد في عدد أجنادها أنها كان لها اثنا عشر ألفاً، قيل تحت يد كل واحد منهم مائة ألف. قال القاضي أبو محمد: وهذا بعيد، وذكر غيره نحوه فاختصرته لبعد الصحة عنه، ثم أخبرت بلقيس عند ذلك بفعل {الملوك} بالقرى التي يتغلبون عليها، وفي الكلام خوف على قومها وحيطة لهم واستعظام لأمر سليمان عليه السلام، وقالت فرقة إن {وكذلك يفعلون} من قول بلقيس تأكيداً منها للمعنى الذي أرادته، وقال ابن عباس: هو من قول الله تعالى معرفاً لمحمد عليه السلام وأمته ومخبراً به.
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)} روي أن بلقيس قالت لقومها إني أجرب هذا الرجل {بهدية} أعطيه فيها نفائس الأموال وأغرب عليه بأمور المملكة، فإن كان ملكاً دنياوياً أرضاه المال فعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبياً لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين فينبغي أن نؤمن به ونتبعه على دينه، فبعثت إليه {بهدية} عظيمة أكثر بعض الناس في تفصيلها فرأيت اختصار ذلك لعدم صحته، واختبرت علمه فيما روي بأن بعثت إليه قدحاً فقالت املأه لي ماء ليس من الأرض ولا من السماء، وبعثت إليه درة فيها ثقب محلزق وقالت يدخل سلكها دون أن يقربها إنس ولا جان، وبعثت أخرى غير مثقوبة وقالت يثقب هذه غير الإنس والجن، فملأ سليمان القدح من عرق الخيل، وأدخلت السلك دودة. وثقبت الدرة أرضة ماء، وراجع سليمان مع رد الهدية بما في الآية وعبر عن «المرسلين ب {جاء} وبقوله {ارجع} لما أراد به الرسول الذي يقع على الجمع والإفراد والتأنيث والتذكير، وقرأ ابن مسعود» فلما جاؤوا سليمان «وقرأ» ارجعوا «، ووعيد سليمان لهم مقترن بدوامهم على كفرهم، وذكر مجاهد أنها بعثت في هديتها بعدد كثير من العبيد بين غلام وجارية وجعلت زيهم واحداً وجربته في التفريق بينهم. قال القاضي أبو محمد: وليس هذا بتجربة في مثل هذا الأمر الخطير، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو» أتمدونني «بنونين وياء في الوصل، وقرأ ابن عامر وعاصم والكسائي» أتمدونن «بغير ياء في وقف ووصل، وقرأ جمزة» أتمدونّي «بشد النون وإثبات الياء، وقرأ عاصم» فما آتانِ الله «بكسر النون دون ياء، وقرأ فرقة» آتاني «بياء ساكنة، وقرأ أبو عمرو ونافع» آتانيَ «بياء مفتوحة، ثم توعدهم بالجنود والغلبة والإخراج أذلاء والمعنى إن لم يسلموا، وقرأ عبد الله» لا قبل لهم بهم «على جمع ضمير الجنود. و{لا قبل} معناه لا طاقة ولا مقاومة.
{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} القائل سليمان عليه السلام و{الملأ} المنادى جمعه من الإنس والجن، واختلف المتأولون في غرضه في استدعاء «عرشها» فقال قتادة ذكر له بعظم وجودة فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويحمي أموالهم، و«الإسلام» على هذا التأويل الدين، وهو قول ابن جريج، وقال ابن زيد استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله وليغرب عليها، و{مسلمين} في هذا التأويل بمعنى مستسلمين وهو قول ابن عباس وذكره صلة في العبارة لا تأثير لاستسلامهم في غرض سليمان، ويحتمل أن يكون بمعنى الإسلام، وظاهر هذه الآيات أن هذه المقالة من سليمان عليه السلام بعد مجيء هديتها ورده إياها، وقد بعث الهدهد بالكتاب وعلى هذا جمهور المفسرين، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال هذه المقالة هي ابتداء النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال له {ولها عرش عظيم} [النمل: 23] قال سليمان {أيكم يأتيني بعرشها} ثم وقع في ترتيب القصص تقديم وتأخير. قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أصح وروي أن عرشها كان من ذهب وفضة مرصعاً بالياقوت والجوهر وأنه كان في جوف سبعة أبيات عليه سبعة أغلاق، وقرأ الجمهور «قال عفريت» وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي «قال عفرية»، ورويت عن أبي بكر الصديق، وقرأت فرقة «قال عِفر» بكسر العين، وكل ذلك لغات فيه وهو من الشياطين القوي المارد والتاء في {عفريت} زائدة، وقد قالوا تعفرت الرجل إذا تخلق بخلق الإذاية، قال وهب بن منبه اسم هذا العفريت كودا، وروي عن ابن عباس أنه صخر الجني ومن هذا الاسم قول ذي الرمة: [البسيط] كأنه كوكب في إثر عفرية *** مصوب في سواد الليل منقضب وقوله {قبل أن تقوم من مقامك} قال مجاهد وقتادة وابن منبه معناه قبل قيامك من مجلس الحكم، وكان يجلس من الصبح إلى وقت الظهر في كل يوم، وقيل معناه فبل أن تستوي من جلوسك قائماً، و{قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك}، قال ابن جبير وقتادة قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى، وقال مجاهد معناه قبل أن يحتاج إلى التغميض أي مدة ما يمكنك أن تمد بصرك دون تغميض وذلك ارتداد. قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان يقابلان قول من قال إن القيام هو مجلس الحكم، ومن قال إن القيام هو من الجلوس، فيقول في ارتداد الطرف هو أن يطرف أي قبل أن تصلح عينيك وتفتحهما، وذلك أن الثاني تعاطى الأقصر في المدة ولا بد. وقوله {لَقوي أمين} معناه «قوي» على حمله {آمين} على ما فيه، ويروى أن بلقيس لما فصلت من بلدها متوجهة إلى سليمان تركت العرش تحت أقفال وثقاف حصين فلما علم سليمان بانفصالها أراد أن يغرب عليها بأن تجد عرشها عنده ليبين لها أن ملكه لا يضاهى، فاستدعى سوقه فدعا الذي عنده علم من التوراة وهو {الكتاب} المشار إليه باسم الله الأعظم الذي كانت العادة في ذلك الزمن أن لا يدعو به أحد إلا أجيب، فشقت الأرض بذلك العرش حتى نبع بين يدي سليمان عليه السلام وقيل بل جيء به في الهواء. قال مجاهد وكان بين سليمان وبين العرش كما بين الكوفة والحيرة، وحكى الرماني أن العرش حمل من مأرب إلى الشام في قدر رجع البصر. قال القاضي أبو محمد: وهي مسيرة شهرين للمجدّ، وقول مجاهد: أشهر، وروي أن الجن كانت تخبر سليمان بمناقل سيرها فلما قربت قال {أيكم يأتيني بعرشها}، واختلف المفسرون في {الذي عنده علم من الكتاب} من هو، فجمهور الناس على أنه رجل صالح من بني إسرائيل اسمه «آصف بن برخيا» روي أنه صلى ركتين ثم قال يا نبي الله أمدد بصرك فمد بصره نحو اليمن فإذا بالعرش فما رد سليمان بصره إلا وهو عنده، وقال قتادة اسمه بليخا، وقال إبراهيم النخعي هو «جبريل عليه السلام»، وقال ابن لهيعة هو الخضر وحكى النقاش عن جماعة أنهم سمعوا أنه ضبة بن آد جد بني ضبة من العرب، قالوا وكان رجلاً فاضلاً يخدم سليمان على قطعة من خيله. قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف، وقالت فرقة بل هو سليمان عليه السلام والمخاطبة في هذا التأويل للعفريت لما قال هو {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك}، كأن سليمان عليه السلام استبطأ ذلك فقال له على جهة تحقيره {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} واستدل قائل هذا القول بقول سليمان. {هذا من فضل ربي}، واستدل أيضاً بهذا القول مناقضه إذ في كلا الأمرين على سليمان فضل من الله تعالى، وعلى القول الأول المخاطبة لسليمان، ولفظ، {آتيك}، يحتمل أن يكون فعلاً مستقبلاً، ويحتمل أن يكون اسم فاعل، وفي الكلام حذف تقديره فدعا باسم الله فجاء العرش بقدرة الله فلما رآه سليمان مستقراً عنده جعل يشكر نعمة ربه بعبارة فيا تعليم للناس وفي عرضة للاقتداء بها والاقتباس منها، وقال ابن عباس المعنى {ءاشكر} على السرير وسوقه {أم أكفر} إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني وظهر العامل في الظرف من قوله {مستقراً} وهذا المقدر أبداً في كل ظرف جاء هنا مظهراً وليس في كتاب الله تعالى مثله. وباقي الآية بين.
{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)} أراد سليمان عليه السلام في هذا «التنكير» تجربة ميزها ونظرها وليزيد في الإغراب عليها، وروت فرقة أن الجن أحست من سليمان أو ظنت به أنه ربما تزوج بلقيس، فكرهوا ذلك وعابوها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة وبأن رجلها كحافر دابة، فجرب عقلها وميزها بتنكير عرشها، وجرب أمر رجلها بأمر الصرح، لتكشف عن ساقيها عنده، وقرأ أبو حيوة «تنظُر» بضم الراء، و«تنكير العرش» تغيير وضعه وستر بعضه، ونحو هذا، وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك تنكيره بأن زيد فيه ونقص منه، ويعترض هذا بأن من حقها على هذا أن تقول ليس به وتكون صادقة، وقولها {كأنه هو}، تجوز فصيح ونحوه قول الله تعالى: {كأنه ولي حميم} [فصلت: 34]. وقال الحسن بن الفضل شبهوا عليها فشبهت عليهم ولو قالوا هذا عرشك لقالت نعم، وفي الكلام حذف تقديره كأنه هو، وقال سليمان عند ذلك {وأوتينا العلم من قبلها} الآية، وهذا منه على جهة تعديد نعم الله، وإنما قال ذلك لما علمت هي وفهمت، ذكر هو نعمة الله عليه وعلى آبائه، وقوله تعالى: {وصدها} الآية، يحتمل أن يكون من قول الله تعالى إخباراً لمحمد عليه السلام والصاد ما كانت تعبد أي عن الإيمان ونحوه. وقال الرماني عن التفطن للعرش، لأن المؤمن يقظ والكافر خشيب أو يكون الصاد سليمان عليه السلام قاله الطبري، أو يكون الصاد الله عز وجل. ولما كان {صدها} بمعنى منعها، تجاوز على هذا التأويل بغير حرف جر وإلا فبابه ألا يتعدى إلا ب «عن»، وقرأ جمهور الناس «إنها بكسر الهمزة، وقرأ سعيد بن جبير وابن أبي عبلة» أنها «بفتح الهمزة وهو على تقدير ذلك أنها، أو على البدل من {ما}، قال محمد بن كعب القرظي وغيره ولما وصلت بلقيس أمر سليمان الجن فصنعت له صرحاً وهو الصحن من غير سقف وجعلته مبنياً كالصهريج وملئ ماء وبث فيه السمك والضفادع وطبق بالزجاج الأبيض الشفاف، وبهذا جاء صرحاً، و{الصرح} أيضاً كل بناء عال، وكل هذا من التصريح وهو الإعلان البالغ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي، فلما وصلت إليه بلقيس {قيل لها ادخلي} إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأت اللجة وفزعت وظنت أنها قصد بها الغرق وعجبت من كون كرسيه على الماء ورأت ما هالها ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ف» كشفت «عن ساقيها»، فرأى سليمان ساقيها سليمة مما قالت الجن غير أنها كثيرة الشعر، فلما بلغا هذا الحد، قال لها سليمان {إنه صرح ممرد من قوارير}، و«الممرد» المحكوك المملس، ومنه الأمرد والشجرة المرداء التي لا ورق عليها والممرد أيضاً المطول، ومنه قيل للحصن مارد، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم، فروي أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام قاله الضحاك، وقال سعيد بن عبد العزيز في كتاب النقاش تزوجها وردها إلى ملكها باليمن وكان يأتيها على الريح كل يوم مرة، فولدت له غلاماً سماه داوود مات في حياته، و{مع} ظرف، وقيل حرف بني على الفتح، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى وقرأ ابن كثير وحده في رواية أبي الأخربط «عن سأقيها» بالهمز قال أبو علي وهي ضعيفة وكذلك يضعف الهمز في قراءة قنبل «يكشف عن سأق» فأما همز السؤق وعلى سؤقه فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة حكى أبو علي أن أبا حيّة النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد «لب المؤقدان إلى موسى» ووجهها أن الضمة تقوم على الواو إذ لا حائل بينهما، وقرأ ابن مسعود «عن رجليها»، وروي أن سليمان عليه السلام لما أراد زوال شعر ساقيها أشفق من حمل الموسى عليها وقيل إنها قالت ما مسني حديد قط فأمر الجن بالتلطف في زواله. فصنعوا النورة ولم تكن قبل الأمم، وهذه الأمور التي فعلها سليمان عليه السلام من سوق العرش وعمل الصرح وغير ذلك قصد بذلك معاياتها والإغراب عليها، كما سلكت هي قبل سبيل ملوك الدنيا في ذلك بأن أرسلت الجواري والغلمان واقترحت في أمر القدح والذرتين.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)} هذه الآية على جهة التمثيل لقريش، و{أن} من قوله {أن اعبدوا الله}، يحتمل أن تكون مفسرة ويحتمل أن تكون في موضع نصب تقديره «بأن اعبدوا الله»، و{فريقان} يريد بهما من آمن بصالح ومن كفر به، و«اختصاصهم» تنازعهم وجدلهم، وقد ذكره الله تعالى في سورة الأعراف، ثم إن {صالحاً} تلطف بقومه وترفق بهم في الخطاب فوقفهم على خطيئتهم في استعجال العذاب قبل الرحمة والمعصية لله تعالى قبل الطاعة وفي أن يكون اقتراحهم وطلبهم يقتضي هلاكهم، ثم حضهم على ما هو أيسر من ذلك وأعود بالخير وهو الإيمان وطلب المغفرة ورجاء الرحمة فخاطبوه عند ذلك بقول سفساف معناه تشاءمنا بك، قال المفسرون: وكانوا في قحط فجعلوه لذات صالح وأصل «الطيرة» ما تعارفه أهل الجهل من زجر الطير وشبهت العرب ما عن بما طار حتى سمي ما حصل الإنسان في قرعة طائراً، ومنه قوله تعالى {ألزمنا طائره في عنقه} [الإسراء: 13]، وخاطبهم صالح ببيان الحق أي {طائركم} على زعمكم وتسميتكم وهو حظكم في الحقيقة من تعذيب أو إعفاء هو {عند الله} وبقضائه وقدره وإنما أنتم قوم تختبرون، وهذا أحد وجوه الفتنة، ويحتمل أن يريد بل أنتم قوم تولعون بشهواتكم وهذا معنى قد تعورف استعمال لفظ الفتنة فيه ومنه قولك: فتن فلان بفلان، وشاهد ذلك كثير.
{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)} ذكر الله تعالى في هذه الآية {تسعة} رجال كانوا من أوجه القوم وأفتاهم وأغناهم وكانوا أهل كفر ومعاصٍ جمة، جملة أمرهم أنهم {يفسدون} {ولا يصلحون}، قال عطاء بن أبي رباح: بلغني أنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم. قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو الأثر المروي: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض، و{المدينة} مجتمع ثمود وقريتهم، و«الرهط» من أسماء الجمع القليلة، العشرة فما دونها رهط، ف {تسعة رهط} كما تقول تسعة رجال، وهؤلاء المذكورون كانوا أصحاب قدار عاقر الناقة وقد تقدم في غير هذا الموضع ما ذكر في أسمائهم، وقوله {تقاسموا} حكى الطبري أنه يجوز أن يكون فعلاً ماضياً في موضع الحال كأنه قال متقاسمين أي متحالفين بالله، وكان في قوله {لنبيتنه}، ويؤيد هذا التأويل أن في قراءة عبد الله «ولا يصلحون تقاسموا» بسقوط {قالوا}، ويحتمل وهو تأويل الجمهور أن يكون {تقاسموا} فعل أمر أشار بعضهم على بعض بأن يتحالفوا على هذا الفعل ب «صالح»، ف {تقاسموا} هو قولهم على هذا التأويل وهذه الألفاظ الدالة على قسم أو حلف تجاوب باللام وإن لم يتقدم قسم ظاهر فاللام في {لنبيتنه} جواب ذلك، وقرأ جمهور القراء «لنبيتنه» بالنون، «ثم لنَقولن» بنون وفتح اللام، وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب «ليُبيتنه» بالياء مضمومة فيهما «ثم ليقولن» بالياء وضم اللام، وفي قراءة عبد الله «ثم لتقسمن ما شهدنا»، وقرأ حمزة والكسائي «لتبيتنه» بالتاء «ثم لتقولُن» بالتاء وضم اللام وهي قراءة الحسن وحميد، فهذا ذكر الله فيه المعنى الذي أرادوه، لا بحسب لفظهم، وروي في قصص هذه الآية أن هؤلاء التسعة لما كان في صدر الثلاثة الأيام بعد عقر الناقة وقد أخبرهم صالح بمجيء العذاب اتفق هؤلاء التسعة فتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلاً فيقتلوه وأهله المختصين به، قالوا فإن كان كاذباً في وعيده أوقعنا به ما يستحق، وإن كان صادقاً كنا قد عجلناه قبلنا وشفينا نفوسنا، قال الداودي. فجاؤوا واختفوا لذلك في غار قريب من داره، فروي أنه انحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعاً، وروي أنه طبقت عليهم الغار فهلكوا فيه حين هلك قومهم، وكل فريق لا يعلم بما جرى على الآخر، وكانوا قد بنوا على جحود الأمر من قرابة صالح الذين يمكن أن يغضبوا له فهذا كان أمرهم، و«المكر» نحو الخديعة، وسمى الله تعالى عقوبتهم باسم ذنبهم وهذا مهيع ومنه قوله تعالى: {يستهزئ بهم} [البقرة: 15] وغير ذلك، وقرأ الجمهور «مُهلَك» بضم الميم وفتح اللام، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بفتحهما، وروي عنه فتح الميم وكسر اللام، «والعاقبة» حال تقتضيها البدأة وتؤدي إليها بواجب، ويعني بالأهل، كل من آمن معه قاله الحسن، وقرأ جمهور القراء «إنا دمرناهم» بكسر الألف، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «أنا دمرناهم» بفتح الهمزة وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق، ف {كان} على قراءة الكسر في الألف تامة، وإن قدرت ناقصة فخبرها محذوف أو يكون الخبر {كيف} مقدماً لأن صدر الكلام لها ولا يعمل على هذا «انظر»، في {كيف} لكن يعمل في موضع الجملة كلها، وهي في قراءة الفتح ناقصة وخبرها «أنَّا» ويجوز أن يكون الخبر {كيف} وتكون «أنَّا» بدلاً من العاقبة، ويجوز أن تكون {كان} تامة «وأنّا» بدلاً من العاقبة، ووقع تقرير السؤال ب {كيف} عن جملة قوله {كان عاقبة مكرهم إنا دمرناهم} وليس بمحض سؤال ولكنه حقه أن يسأل عنه، و«التدمير» الهلاك. ويحتمل أن تتقدر {كان} تامة على قراءة الفتح، وغيره أظهر، وقرأ أبي بن كعب «أن دمرناهم» فهذه تؤيد قراءة الفتح في «أنا».
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)} «إخواء البيوت» وخرابها مما أخبر الله تعالى به في كل الشرائع أنه مما يعاقب به الظلمة وفي التوراة. ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك، و{خاوية} نصب على الحال التي فيها الفائدة، ومعناها خالية قفراً، قال الزجاج وقرئت «خاويةُ» بالرفع وذلك على الابتداء المضمر أي «هي خاوية»، أو على الخبر عن تلك، و{بيوتهم} بدل أو على خبر ثان، وهذه البيوت المشار إليها هي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين» الحديث، ثم قال تعالى {ولوطاً} تقديرة «واذكر لوطاً»، و{الفاحشة} إتيان الرجال في الأدبار، و{تبصرون} معناه بقلوبكم أنها خطيئة وفاحشة، وقالت فرقة {تبصرون} بأبصاركم لأنهم كانوا ينكشفون بفعل ذلك ولا يستتر بعضهم من بعض، واختلف القراء في قوله {أئنكم} وقد تقدم، وقرأ جمهور الناس «جوابَ» نصباً، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «جوابُ» بالرفع، ونسب ابن جني قراءة النصب إلى الحسن وفسّرها في الشاذ، وأخبر الله تعالى عن قوم لوط أنهم تركوا في جوابهم طريق الحجة وأخبروا بالمبالغة فتآمروا بإخراجه وإخراج من آمن معه ثم ذموهم بمدحه، وهي «التطهر» من هذه الدناءة التي أصفقوا هم عليها قال قتادة هابوهم والله بغير عيب، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «قدرناها» بتخفيف الدال، وقرأ جمهور القراء «قدّرناها» بشدّ الدال، الأولى بمعنى جعلناها وحصلناها والثانية بمعنى قدرناها عليها من القضاء والقدر، و«الغابرون»، الباقون في العذاب، وغنبر بمعنى بقي، وقد يجيء أحياناً في بعض كلام العرب يوهم أنه بمعنى مضى، وإذا تؤمل توجه حمله على معنى البقاء، و«المطر» الذي مطر عليه هي حجارة السجيل أهلكت جميعهم، وهذه الآية أصل لمن جعل من الفقهاء الرجم في اللوطية، وبها تأنس لأن الله تعالى عذبهم على كفرهم به وأرسل عليهم الحجارة لمعصيتهم ولم يقس هذا القول على الزنا فيعتبر الإحصان. بل قال مالك وغيره يرجمان في اللوطية أحصنا أو لم يحصنا وإنما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم «اقتلوا الفاعل والمفعول به» فذهب من ذهب إلى رجمهما بهذه الآية.
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)} قرأ أبو السمال «قلَ» بفتح اللام وكذلك في آخر السورة وهذا ابتداء تقرير وتنبيه لقريش وهو بعد يعم كل مكلف من الناس جميعاً، وافتتح ذلك بالقول بحمده وتحميده وبالسلام على عباده الذين اصطفاهم للنبوءة والإيمان، فهذا اللفظ عام لجميعهم من بني آدم، وكان هذا صدر خطبة للتقرير المذكور. وقال ابن عباس العباد المسلم عليهم هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واصطفاهم لنبيه. قال القاضي أبو محمد: وفي هذا الاختصاص توبيخ للمعاصرين من الكفار، وقال الفراء الأمر بالقول في هذه الآية هو للوط عليه السلام. قال القاضي أبو محمد: وهذه عجمة من الفراء رحمه الله، ثم وقف قريشاً والعرب على جهة التوبيخ على موضع التباين بين الله عز وجل وبين الأوثان والأنصاب، وقرأ جمهور الناس «تشركون» بالتاء من فوق، وحكى المهدوي عن أبي عمرو وعاصم «يشركون» بالياء من تحت، وفي هذا التفضيل بلفظة {خير} أقوال، أحدها أن التفضيل وقع بحسب معتقد المشركين إذ كانت تعتقد أن في آلهتها خيراً بوجه ما، وقالت فرقة في الكلام حذف مضاف في موضعين التقدير أتوحيد الله خير أم عبادة ما تشركون، ف {ما} في هذه الآية بمعنى الذي، وقالت فرقة «ما» مصدرية وحذف المضاف إنما هو أولاً تقديره أتوحيد الله خير أم شرككم، وقيل {خير} هنا ليست بأفعل إنما هي فعل كما تقول الصلاة خير دون قصد تفضيل. قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم أن هذه الألفاظ التي تعم معاني كثيرة كخير وشر وأحب ونحو ذلك قد يقع التفضيل بها بين أشياء متباينة لأن المتباينات قدر بما اشترك فيها ولو بوجه ضعيف بعيد، وأيضاً فهذا تقرير والمجادل يقرر خصمه على قسمين أحدهما فاسد، ليرى وقوعه وقد استوعبنا هذا فيما مضى، وقالت فرقة تقدير هذه الآية «الله ذو خير أما تشركون». قال القاضي أبو محمد: وهذا النوع من الحذف بعيد تأوله، وقرأ الحسن وقتادة وعاصم «يشركون» بالياء من تحت، وقرأ أهل المدينة ومكة والكوفة بالتاء من فوق وقوله تعالى. {أمن خلق} وما بعدها من النوقيفات، توبيخ لهم وتقرير على ما لا مندوحة لهم عن الإقرار به، وقرأ الجمهور «أمّن» بشد الميم وهي «أم» دخلت على «من»، وقرأ الأعمش «أمَن» بفتح الميم مسهلة وتحتمل هذه القراءة أن تكون «أمن» استفهاماً فتكون في معنى «أم من» المتقدمة، ويحتمل أن تكون الألف للاستفهام ومن ابتداء وتقدير الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا من المعنى، و«الحدائق» مجتمع الشجر من الأعناب والنخيل وغير ذلك، قال قوم لا يقال حديقة إلا لما عليه جدار قد أحدق به، وقال قوم يقال ذلك كان جداراً أو لم يكن لأن البياض محدق بالأشجار والبهجة الجمال والنضرة، وقرأ ابن أبي عبلة «ذوات بهَجة» بجمع «ذات» وفتح الهاء من «بهجة»، ثم أخبر على جهة التوقيف أنه {ما كان} للبشر أي ما يتهيأ لهم ولا يقع تحت قدرهم أن ينبتوا شجرها، لأن ذلك بإخراج شيء من العدم إلى الوجود، وقد تقدم ترتيب القراءة في الهمزتين من قوله «أ. لاه «وا. ذا وأ. نك لأنت يوسف»، قال أبو حاتم القراءة باجتماع الهمزتين محدثة. لا توجد في كلام العرب ولا قرأ بها قارئ عتيق، و{يعدلون} يجوز أن يراد به يعدلون عن طريق الحق أن يجورون في فعلهم، ويجوز أن يراد يعدلون بالله غيره أي يجعلون له عديلاً ومثيلاً، و{خلالها} معناه بينها وأثناءها، و«الرواسي» الجبال، رسا الشيء يرسو إذا ثبت وتأصل، و«البحران» الماء العذب بجملته والماء الأجاج بجملته، و«الحاجز» ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها على رقتها في بعض المواضع ولطافتها التي لولا قدرة الله تعالى لغلب الملح العذب وكل ما مضى من القول في تأويل في قوله {مرج البحرين} [الفرقان: 53] فهو مترتب هاهنا وباقي الآية بين.
{أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)} وقفهم في هذه الآية على المعاني التي تبين لكل عاقل أنه لا مدخل لصنم ولا لوثن فيها وهي عبر ونعم، فالحجة قائمة بها من الوجهين، وقوله تعالى: {يجيب المضطر} معناه بشرط إن شاء على المعتقد في الإجابة، لكن {المضطر} لا يجيبه متى أجيب إلا الله عز وجل، و{السوء} عام في كل ضر يكشفه الله تعالى عن عباده، وقرأ الحسن «ويجعلكم» بياء على صيغة المستقبل ورويت عنه بنون، وكل قرن خليف للذي قبله. وقرأ جمهور القراء «تذكرون» بالتاء على المخاطبة، وقرأ أبو عمرو وحده والحسن والأعمش بالياء على الغيب، و«الظلمات» عام لظلمة الليل التي هي الحقيقة في اللغة ولظلمة الجهل والضلال والخوف التي هي مجازات وتشبيهات وهذا كقول الشاعر: «تجلت عمايات الرجال عن الصبا» *** وكما تقول أظلم الأمر وأنار، وقد تقدم اختلاف القراء في قوله {نشراً}، وقرأ الحسن وغيره، «يشركون» بالياء على الغيبة، وقرأ الجمهور «تشركون» على المخاطبة، و«بدء الخلق» اختراعه وإيجاده، و{الخلق} هنا المخلوق من جميع الأشياء لكن المقصود بنو آدم من حيث ذكر الإعادة، و«الإعادة» البعث من القبور ويحتمل أن يريد ب {الخلق} مصدر خلق يخلق ويكون في {يبدأ} {ويعيد} استعارة للإتقان والإحسان كما تقول فلان يبدي ويعيد في أمر كذا وكذا إذا كان يتقنه، والرزق {من السماء} بالمطر ومن {الأرض} بالنبات، هذا مشهور ما يحسه البشر، وكم لله من لطف خفي، ثم أمر عز وجل نبيه أن يوقفهم على أن {الغيب} مما انفرد الله بعلمه ولذلك سمي غيباً لغيبه عن المخلوقين، ويروى أن هذه الآية من قولهم {قل لا يعلم}، إنما نزلت لأن الكفار سألوا وألحوا عن وقت القيامة التي يعدهم محمد فنزلت هذه الآية فيها التسليم لله تعالى وترك التحديد، فأعلم عز وجل أنه لا يعلم وقت الساعة سواه فجاء بلفظ يعم الساعة وغيرها، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون {أيان يبعثون} وبهذه الآية احتجت عائشة رضي الله عنها على قولها ومن زعم أن محمداً يعلم الغيب فقد أعظم الفرية، والمكتوبة في قوله تعالى: {إلا الله} بدل من {من}، وقرأ جمهور الناس «أيان» بفتح الهمزة، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «إيان» بكسرها وهما لغتان، وقرأ جمهور القراء «بل ادارك» أصله تدارك أدغمت التاء في الدال بعد أن أبدلت ثم احتيج إلى ألف الوصل، وقرأ أبي بن كعب فيما روي عنه «تدارك»، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «بل ادرك» على وزن افتعل وهي بمعنى تفاعل، وقرأ سليمان بن يسار وعطاء بن يسار «بلَ ادّرك» بفتح اللام ولا همزة تشديد الدال دون ألف، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل مكة، «بل أدرك»، وقرأ مجاهد «أم أدرك» بدل «بل»، وفي مصحف أبي بن كعب «أم تدارك علمهم»، وقرأ ابن عباس «بل أدرك» وقرأ ابن عباس أيضاً «بل آدارك» بهمزة ومدة على جهة الإستفهام، وقرأ ابن محيصن «بل آدرك» على الاستفهام ونسبها أبو عمرو الداني إلى ابن عباس والحسن. فأما قراءة الاستفهام فهي على معنى الهزء بالكفر والتقرير لهم على ما هو في غاية البعد عنهم أي أعلموا أمر الآخرة وأدركها علمهم؟ وأما القراءات المتقدمة فتحتمل معنيين أحدهما «بل أدرك علمهم» أي تناهى كما تقول أدرك النبات وغيره وكما تقول هذا ما أدرك علمي من كذا وكذا فمعناه قد تتابع وتناهى علمهم بالآخرة إلى أن لا يعرفوا لها مقداراً فيؤمنوا، وإنما لهم ظنون كاذبة أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتاً وكذلك «ادرك وتدارك» وسواها وإن جملت هذه القراءة معنى التوقيف والإستفهام ساغ وجاء إنكاراً لأن أدركوا شيئاً نافعاً، والمعنى الثاني «بل أدرك» بمعنى يدرك أي إنهم في الآخرة يدرك علمهم وقت القيامة، ويرون العذاب والحقائق التي كذبوا بها وأما في الدنيا فلا. وهذا هو تأويل ابن عباس ونحى إليه الزجاج، فقوله {في الآخرة} على هذا التأويل ظرف، وعلى التأويل الأول {في} بمعنى الباء، و«العلم» قد يتعدى بحرف الجر تقول علمي يزيد كذا ومنه قول الشاعر: [الطويل] وعلمي بإسدام المياه... *** البيت. ثم وصفهم عز وجل بأنهم {في شك منها} ثم أردف بصفة هي أبلغ من الشك وهي العمى بالجملة عن أمر الآخرة، و{عمون} أصله عميون كحذرون وغيره.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)} استبعد الكفار أن تبعث الأجساد والرمم من القبور واستملحوا ذلك فذكر ذلك عنهم على جهة الرد عليهم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «أ. ذا. أ. ن» مهموز، غير أن أبا عمرو يمد وابن كثير لا يمد، وقرأ عاصم وحمزة «أإذا أإنا» بهمزتين فيهما، وقرأ نافع «إذا» مكسورة الألف «أنا.» ممدوة الألف، وقرأ الباقون «آيذا» ممدودة «إننا» بنونين وكسر الألف، ثم ذكر الكفار أن هذه المقالة مما قد وعد بها قبل وردوا على جميع الأنبياء وجعلوها من الأساطير، ثم وعظهم تعالى بحال من كذب من الأمم فأمر نبيه أن يأمرهم بالسير والتطلع على حال مجرمي الأمم وبالحذر أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك، وهذا التحذير يقتضيه المعنى، ثم سلى نبيه عليه السلام عنهم، وهذا بحسب ما كان عنده من الحرص عليهم الاهتمام بأمرهم، وقرأ ابن كثير «في ضِيق» بكسر الضاد ورويت عن نافع، وقرأ الباقون بفتحها و«والضِّيق» و«الضَّيق» مصدران بمعنى واحد، وكره أبو علي أن يكون «ضيق» كهين ولين مسهلة من ضيق قال: لأن ذلك يقتضي أن تقام الصفة مقام الموصوف، ثم ذكر استعجال قريش بأمر الساعة والعذاب بقولهم {متى هذا الوعد}، على معنى التعجيز للواعد به، فأمر تعالى نبيه يتوعدهم بأنه عسى أن يأذن الله في أن يقرب منهم بعض ما استعجلوه من الساعة والعذاب. و {ردف} معناه قرب وأزف قاله ابن عباس وغيره، ولكنها عبارة عما يجيء بعد الشيء قريباً منه ولكونه بمعنى هذه الأفعال الواقعة تعدى بحرف وإلا فبابه أن يتجاوز بنفسه، وقرأ الجمهور بكسر الدال، وقرأ الأعرج «ردَف» بفتح الدال، وقرأ جمهور الناس، «تُكن» من أكن وقرأ ابن محيصن وابن السميفع «تكن» من كن وهما بمعنى.
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} التاء في {غائبة} للمبالغة، أي ما من شيء في غائبة الغيب والخفاء {إلا في كتاب} عند الله عز وجل وفي مكنون علمه، ثم نبه تعالى على {إن هذا القرآن} أخبر {بني إسرائيل} بأكثر الأشياء التي كان بينهم الخلاف في صفتها فجاءت في القرآن على وجهها، ثم وصفه تعالى بأنه هدى ورحمة للمؤمنين، كما أنه عمى على الكافرين المحتوم عليهم ومعنى ذلك أن كفرهم استتب مع قيام الحجة ووضوح الطريق فكثر عماهم بهذه الجهة ثم أخبر أن ذلك كله بقضاء من الله وحكم قضاه فيهم وبينهم، ثم أمره بالتوكل عليه والثقة بالله وبأنه {على الحق} أي إنك الجدير بالنصرة والظهور، ثم سلاه عنهم وشبههم ب {الموتى} من حيث الفائدة في القول لهؤلاء وهؤلاء معدومة فشبههم مرة ب {الموتى} ومرة ب {الصم}، قال العلماء: الميت من الأحياء هو الذي يلقى الله بكفره. قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: واحتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية، ونظرت هي في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما أنتم بأسمع منهم» فيشبه أن قصة بدر هي خرق عادة لمحمد عليه السلام في أن رد الله إليهم إدراكاً سمعوا به مقاله، ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين منهم. وقد عورضت هذه الآية بالسلام على القبور وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات قالوا: فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه. قال القاضي أبو محمد: وهذا كله غير معارض للآية لأن السلام على القبور إنما هو عبادة وعند الله الثواب عليها وهو تذكير للنفس بحالة الموت وبحالة الموتى في حياتهم، وإن جوزنا مع هذا أن الأرواح في وقت على القبور فإن سمع فليس الروح بميت وإنما المراد بقوله {إنك لا تسمع الموتى} الأشخاص الموجودة مفارقة لأرواحها، وفيها تقول خرفت العادة لمحمد عليه السلام في أهل القليب وذلك كنحو قوله صلى الله عليه وسلم في الموتى «إذا دخل عليهم الملكان إنهم يسمعون خفق النعال»، وقرأ ابن كثير «ولا يسمع» بالياء من تحت «الصمُّ» رفعاً ومثله في الروم، وقرأ الباقون «تُسمع» بالتاء «الصمَّ» نصباً، وقرأ جمهور القراء «بهادي العمي» بالإضافة، وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة «بهادٍ العميَ» بتنوين الدال ونصب «العميَ»، وقرأ حمزة وحده «وما أنت تهدي العمي» بفعل مستقبل وهي قراءة طلحة وابن وثاب وابن يعمر، وفي مصحف عبد الله «وما أن تهدي العمي»، ومعنى قوله {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض}، إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله تعالى في ذلك أي حتمه عليهم، وقضاؤه وهذا بمنزلة قوله تعالى: {حقت كلمة العذاب} [الزمر: 71] فمعنى الآية وإذا إراد الله أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب أخرج لهم دابة من الأرض، وروي أن ذلك حين ينقطع الخير ولا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يبقى منيب ولا تائب، كما أوحى الله إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ووقع، عبارة عن الثبوت واللزوم وفي الحديث أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول الأشراط وإن لم تعين الأولى وكذلك الدجال. قال القاضي أبو محمد: وظاهر الأحادث والروايات أن الشمس آخرها لأن التوبة تنقطع معها وتعطي الحال أن الإيمان لا يبقى إلا في أفراد وعليهم تهب الريح التي لا تبقي إيماناً وحينئذ ينفخ في الصور، ونحن نروي أن الدابة تسم قوماً بالإيمان وتجد أن عيسى ابن مريم يعدل بعد الدجال ويؤمن الناس به وهذه الدابة روي أنها تخرج من جبل الصفا بمكة قاله عبد الله بن عمر، وقال عبد الله بن عمرو نحوه، وقال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت، وروي عن قتادة أنها تخرج تهامة، وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام، وروى بعضهم عن حذيفة بن اليمان أنها تخرج ثلاث خرجات، وروي أنها دابة مزغبة شعراء، وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين وهي في السحاب وقوائمها في الأرض، وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان، وذكر الثعلبي عن أبي الزبير نحوه، وروي أنها دابة مبثوث نوعها في الأرض فهي تخرج في كل بلد وفي كل قوم، فعلى هذا التأويل {دابة} إنما هو اسم جنس، وحكى النقاش عن ابن عباس أنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة، وقرأ جمهور الناس «تكلمهم» من الكلام، وفي مصحف أبيّ «تنبئهم»، وفسرها عكرمة بتسمهم قال قتادة: وفي بعض القراءة تحدثهم. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جريج «تكلِمهم» بكسر اللام من الكلم وهو الجرح، قال أبو الفتح: وهي قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري، وقال ابن عباس: كلا والله تفعل تكلمهم وتكلمهم. قال القاضي أبو محمد: وروي في هذا أنها تمر على الناس فتسم الكافر في جبهته وتزجره وتشتمه وربما حطمته وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه ويعرف بعد ذلك الإيمان والكفر من أثرها، وقرأ جمهور القراء «إن الناس» بكسر «إن» وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «أن» بفتح الألف، وفي قراءة عبد الله «تكلمهم بأن» وهذا تصديق للفتح، وعلى هذه القراءة يكون قوله {إن الناس} إلى آخر القراءة من تمام كلام الدابة، وروي ذلك عن ابن عباس ويحتمل أن يكون ذلك من كلام الله عز وجل.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)} المعنى واذكر يوم، وهذا تذكير بيوم القيامة و{نحشر} نجمع، و{من كل أمة} يريد من كل قرن من الناس متقدم، لأن كل عصر لم يخل من كفرة بالله من لدن تفرق بني آدم، و«الفوج» الجماعة الكثيرة من الناس والمعنى ممن حاله أنه مكذب بآياتنا، و{يوزعون} معناه يكفون في السوق أي يحبس أولهم على آخرهم، قال قتادة وغيره: ومنه وازع الجيش، وفيه يقول عبد الشارق بن عبد العزى: [الوافر] فجاؤوا عارضاً برداً وجئنا *** كمثل السيل نركب وازعينا ثم أخبر تعالى عن توقيفه الكفرة يوم القيامة وسؤالهم على جهة التوبيخ {أكذبتم} الآية، ثم قال {أماذا كنتم تعملون} على معنى استيفاء الحجج، أي إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوها، وقرأ أبو حيوة «أماذا كنتم تعملون» بتخفيف الميم، ثم أخبر عن وقوع القول عليه أن نفوذ العذاب وحتم القضاء وأنهم {لا ينطقون} بحجة لأنها ليست لهم وهذا في موطن من مواطن القيامة وفي فريق من الناس لأن القرآن يقتضي أنهم يتكلمون بحجج في غير هذا الموطن. ثم ذكر تعالى الآية في {الليل} وكونه وقت سكون واتداع لجميع الحيوان والمهم من ذلك بنو آدم، وكون {النهار مبصراً} أي ذا إبصار، وهذا كما تقول ليل قائم ونهار صائم، ومعنى ذلك يقام فيه ويصام، فكذلك هذا، معناه يبصر فيه فهو لذلك ذو إبصار، ثم تجوز بأن قيل {مبصراً} فهو على النسب كعيشة راضية، و«الآيات» في ذلك هي للمؤمنين والكافرين، هي آية لجميعهم في نفسها، لكن من حيث الانتفاع بها والنظر النافع إنما هو للمؤمنين فلذلك خصوا بالذكر، ثم ذكر تعالى يوم {ينفخ في الصور}، وهو القرن في قول جمهور الأمة، وهو مقتضى الأحاديث، وقال مجاهد: هو كهيئة البوق، وقالت فرقة: «الصور» جمع صورة كتمرة وتمر وجمرة وجمر والأول أشهر، وفي الأحاديث المتداولة أن إسرافيل عليه السلام هو صاحب «الصور» وأنه قد جثا على ركبته الواحدة وأقام الأخرى وأمال خده والتقم القرن ينتظر متى يؤذن له في النفخ، وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي نفخة الفزع، وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور، وقالت فرقة إنما هي نفختان كأنهم جعلوا الفزع والصعق في نفخة واحدة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر: 68] وقالوا: أخرى لا يقال إلا في الثانية. قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أصح، و{أخرى} [الزمر: 68] يقال في الثالثة ومنه قول ربيعة بن مكدم: [الكامل] «ولقد شفعتهما بآخر ثالث» *** ومنه قوله تعالى: {ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 20]. وأما قول الشاعر: [مجزوء الكامل] جعلت لها عودين من *** نشم وآخر من ثمامه فيحتمل أن يريد به ثانياً وثالثاً فلا حجة فيه. وقال تعالى: {ففزع} وهو أمر لم يقع بعد إشعاراً بصحة وقوعه وهذا معنى وضع الماضي موضع المستقبل، وقوله تعالى: {إلا من شاء الله} استثناء فيمن قضى الله تعالى من ملائكته وأنبيائه وشهداء عبيده أن لا ينالهم فزع النفخ في الصور، قال أبو هريرة: هي في الشهداء، وذكر الرماني أنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مقاتل: هي في جبريل عليه السلام وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم فهم حريون أن لا ينالهم هذا. قال القاضي أبو محمد: على أن هذا في وقت ترقب وذلك في وقت أمن إذ هو إطباق جهنم على أهلها، وقرأ جمهور القراء «وكل آتوه» على وزن فاعلوه، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم «أتوه» على صيغة الفعل الماضي وهي قراءة ابن مسعود وأهل الكوفة، وقرأ قتادة «أتاه» على الإفراد إتباعاً للفظ «كل» وإلى هذه القراءة أشار الزجاج ولم يذكرها، و«الداخر» المتذلل الخاضع، قال ابن زيد وابن عباس: «الداخر» الصاغر، وقرأ الحسن «دخرين» بغير ألف، وتظاهرت الروايات بأن الاستثناء في هذ الآية إنما أريد به الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهم أهل للفزع لأنهم بشر لكن فضلوا بالأمن من ذلك اليوم.
{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)} هذا وصف حال الأشياء يوم القيامة عقب النفخ في الصور، و«الرؤية» هي بالعين وهذه الحال ل {الجبال} هي في أول الأمر تسير وتموج وأمر الله تعالى ينسفها ويفتها خلال ذلك فتصير كالعهن، ثم تصير في آخر الأمد هباء منبثاً، و«الجمود»، التضام والتلزز في الجوهر، قال ابن عباس {جامدة} قائمة، ونظيره قول الشاعر [النابغة]: [الطويل] بأرعن مثل الطود تحسب أنهم *** وقوف لحاج والركاب تهملج و {صنع الله} مصدر معرف والعامل فيه فعل مضمر من لفظه، وقيل هو نصب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله، و«الإتقان» الإحسان في المعمولات وأن تكون حساناً وثيقة القوة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يفعلون» بالياء وقرأ الباقون «تفعلون» بالتاء على الخطاب، و«الحسنة» الإيمان، وقال ابن عباس والنخعي وقتادة: «هي لا إله إلا الله، وروي عن علي بن الحسين أنه قال: كنت في بعض خلواتي فرفعت صوتي ب» لا إله إلا الله «فسمعت قائلاً يقول إنها الكلمة التي قال الله فيها {من جاء بالحسنة فله خير منها} وقوله {خير منها} يحتمل أن يكون للتفضيل، ويكون في قوله {منها} حذف مضاف تقديره خير من قدرها واستحقاقها، بمعنى أن الله تعالى تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته، قال ابن زيد: يعطى بالواحدة عشراً والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل، ويحتمل أن يكون خبر ليس للتفضيل بل اسم للثواب والنعمة، ويكون قوله تعالى: {منها} لابتداء الغاية، أي هذا الخير الذي يكون له هو من حسنته وبسببها، وهذا قول الحسن وابن جريج، وقال عكرمة: ليس شيء خيراً من لا إله إلا الله، وإنما له الخير منها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر» من فزع «بالإضافة، ثم اختلفوا في فتح الميم وكسرها من {يومئذ} فقرأ أكثرهم بفتح الميم على بناء الظرف لما أضيف إلى غير متمكن، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع بكسر الميم على إعمال الإضافة، وذلك أن الظروف إذا أضيفت إلى غير متمكن جاز بناؤها وإعمال الإضافة فيها. ومن ذلك قول الشاعر [النابغة الذبياني]: [الطويل] على حين عاتبت المشيب على الصبا *** وقلت ألمّا أصحُ والشيب وازع فإنه يروى» على حين «بفتح النون و» على حينِ «بكسرها، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي» من فزعٍ «بالتنوين وترك الإضافة ولا يجوز مع هذه القراءة إلا فتح الميم من» يومَئذ «، و» السيئة «التي هي في هذه الآية هي الكفر والمعاصي فيمن ختم الله تعالى عليه من أهل المشيئة بدخول النار، و{كبت} معناه جعلت تلي النار، وجاء هذا كباً من حيث خلقتها في الدنيا تعطي ارتفاعها، وإذا كبت الوجوه فسائر البدن أدخل في النار إذ الوجه موضع الشرف والحواس، وقوله {هل تجزون} بمعنى يقال لهم ذلك وهذا على جهة التوبيخ، وقوله {إنما أمرت} بمعنى قل يا محمد لقومك {إنما أمرت}، و{البلدة} المشار إليها مكة، وقرأ جمهور الناس» الذي حرمها «، وقرأ ابن عباس وابن مسعود» التي حرمها «وأضاف في هذه الآية التحريم إلى الله تعالى من حيث ذلك بقضائه وسابق علمه وأضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيم في قوله «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة»، من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته فليس بين الآية والحديث تعارض، وفي قوله {حرمها} تعديد نعمته على قريش في رفع الله تعالى عن بلدهم الغارات والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب، وقوله {وله كل شيء} معناه بالملك والعبودية، وقرأ جمهور الناس «أن أتلو» عطفاً على قوله {أن أكون} وقرأ ابن مسعود «وأن اتل القرآن» بمعنى وقيل لي اتل القرآن و«اتل» معناه تابع بقراءتك بين آياته واسرده وتلاوة القرآن سبب الاهتداء إلى خير كثير، وقوله {فمن اهتدى} معناه من تكسب الهدى والإيمان ونظر نظراً ينجيه ف {لنفسه} سعيه. قال القاضي أبو محمد: فنسبة الهدى والضلال إلى البشر في هذه الآية إنما هي بالتكسب والحرص والحال التي يقع عليها الثواب والعقاب والكل أيضاً من الله تعالى بالاختراع، وقوله {سيريكم آياته} توعد بعذاب الدنيا كبدر، والفتح، ونحوه وبعذاب الآخرة، وقرأ جمهور القراء «عما يعملون»، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم عما «تعملون» بالتاء من فوق على مخاطبتهم.
{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} تقدم القول في الحروف التي في أوائل السور بما أغنى عن الإعادة، فمن قال إن هذه الحروف من أسماء الله تعالى قال إن الطاء من الطول الذي لله تعالى والسين من السلام والميم من المنعم أو الرحيم ونحو هذا، وقوله تعالى: {تلك} يتقدر موضعها بحسب كل قول من الأقوال في الحروف، فمن جعل {طسم} مثالاً لحروف المعجم جاءت الإشارة ب {تلك} إلى حروف المعجم، ومن قطعها قال {تلك} في موضع هذه، وساغ هذا من حيث لم تكن حاضرة عتيدة بل هي أقوال ينقضي بعضها شيئاً فشيئاً فسائغ أن يقال في الإشارة إليها {تلك}. قال القاضي أبو محمد: والأصل أن {تلك} إشارة إلى ما غاب و«هذه» إشارة إلى ما حضر، وقد تتداخل متى كان في الغيبة حصول وثقة به تقوم مقام الحضور- ومتى كان في الحضور بعدما يقوم مقام الغيبة فمن ذلك قوله تعالى {وما تلك بيمينك يا موسى} [طه: 17] لما كان موسى لا يرى ربه تعالى، فهو وعصاه في منزل غيب، فساغ ذلك، ومن النقيض قول المؤلف لكتاب ونحوه هذا كتاب وما جرى هذا المجرى فتتبعه فهو كثير فيشبه في آياتنا هذه أن تكون {تلك} بمنزلة هذه {آيات الكتاب المبين}، ويشبه أن تكون متمكنة من حيث الآيات كلها وقت هذه المخاطبة لم تكن عتيدة، و{نتلو} معناه نقص ونتابع القصص، وخص تعالى بقوله {لقوم يؤمنون} من حيث هم المنتفعون بذلك دون غيره فخصوا تشريفاً، و{علا في الأرض} من علو الطغيان والتغلب، وقوله {في الأرض} يريد في أرض مصر وموضع ملكه، ومتى جاءت {الأرض} هكذا عامة فإنما يراد بها الأرض التي تشبه قصة القول المسوق لأن الأشياء التي تعم الأرض كلها قليلة والأكثر ما ذكرناه، و«الشيع» الفرق، وكان هذا الفعل من فرعون بأن جعل القبط ملوكاً مستخدِمين، وجعل بني إسرائيل عبيداً مستخدَمين، وهم كانوا الطائفة المستضعفة، و{يذبح} مضعف للمبالغة والعبارة عن تكرار الفعل، وقال قتادة كان هذا الفعل من فرعون بأنه قال له كهنته وعلماؤه إن غلاماً لبني إسرائيل يفسد ملكك، وقال السدي: رأى في ذلك رؤيا- فأخذ بني إسرائيل يذبح الأطفال سنين فرأى أنه يقطع نسلهم، فعاد يذبح عاماً ويستحيي عاماً، فولد هارون في عام الاستحياء وولد موسى في عام الذبح، وقرأ جمهور القراء «يُذبح» بضم الياء وكسر الباء على التكثير، وقرأ أبو حيوة، وابن محيصن بفتح الياء وسكون الذال، قال وهب بن منبه: بلغني أن فرعون ذبح في هذه المحاولة سبعين ألفاً من الأطفال، وقال النقاش، جميع ما قتل ستة عشر طفلاً. قال الفقيه الإمام القاضي: طمع بجهله أن يرد القدر وأين هذا المنزع من قول النبي عليه السلام «فلن تقدر عليه» يعني ابن صياد، وباقي الآية بين.
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} المعنى يستضعف فرعون ونحن نريد أن ننعم ونعظم المنة على أولئك المستضعفين، و«الأئمة» ولاة الأمور قاله قتادة {ونجعلهم الوارثين} يريد أرض مصر والشام، وقرأ الأعمش «ولنمكن» بلام، وقرأ الجمهور «ونُرِيَ فرعون» بضم النون وكسر الراء وفتح الياء ونصب فرعون، وقرأ حمزة والكسائي «ويرَى» بالياء وفتح ا لراء وسكون الياء على الفعل الماضي وإسناد الفعل إلى {فرعون} ومن بعده والمعنى ويقع فرعون وقومه وجنوده فيما خافوه وحذروه من جهة بني إسرائيل وظهورهم، {وهامان} هو وزير فرعون وأكبر رجاله، فذكر لمحله من الكفر ولنباهته في قومه فله في هذا الموضع صغار ولعنة لا شرف، وهذا «الوحي» {إلى أم موسى} قالت فرقة: كان قولاً في منامها، وقال قتادة: كان إلهاماً، وقالت فرقة: كان بملك تمثل لها، وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك لها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص في الحديث المشهور وغير ذلك مما روي من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وجملة أمر أم موسى أنها علمت أن الذي وقع في نفسها هو من عند الله ووعد منه، يقتضي ذلك قوله تعالى بعد: {رددناه إلى أمه كي تقرَّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق} [القصص: 13] وهذا معنى قوله {لتكون من المؤمنين} [القصص: 10] أي بالوعد، وقال السدي وغيره: أمرت أن ترضعه عقب الولادة وتصنع به ما في الآية. لأن الخوف كان عقب كل ولادة، وقال ابن جريج: أمرت برضاعه أربعة أشهر في بستان فإذا خافت أن يصيح لأن لبنها لا يكفيه، صنعت به هذا. قال القاضي أبو محمد: والأول أظهر إلا أن الآخر يعضده أمران: أحدهما قوله {فإذا خفت عليه} و«إذا» ظرف لما يستقبل من الزمان، والآخر أنه لم يقبل المراضع والطفل إثر ولادته لا يعقل ذلك، اللهم إلا أن يكون هذا منه بأن الله تعالى حرمها عليه وجعله يأباها بخلاف سائر الأطفال، وقرأ عمرو بن عبد الواحد «أن ارضعيه» بكسر النون وذلك على حذف الهمزة عبطاً لا تخفيفاً، والتخفيف القياسي فتح النون قاله ابن جني، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه و{اليم} جمهور الماء ومعظمه، والمراد نيل مصر، وروي في قصص هذه الآية أن أم موسى واسمها يوحانه أخذته ولفته في ثيابه وجعلت له تابوتاً صغيراً وسدته عليه بقفل وعلقت مفتاحة عليه وأسلمته ثقة بالله وانتظاراً لوعده فلما غاب عنها عاودها بثها وأسفت عليه وأقنطها الشيطان فاهتمت به وكادت تفتضح وجعلت الأخت تقصه أي تطلب أثرة.
{فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)} «الالتقاط» اللقاء على غير قصد وروية، ومنه قول الشاعر [نقادة الأسدي]: [الرجز] ومنهم وردته التقاطا *** لم ألق إذ وردته فراطا إلا الحمام القمر والغطاطا *** فهن يلغطن به إلغاطا ومنه اللغطة و{آل فرعون} أهله وجملته، وروي أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت يعوم في اليم فأمرت بسوقه وفتحته فرأت فيه صبياً صغيراً فرحمته وأحبته، وقال السدي: إن جواريها كان لهن في القصر على النيل فرضة يدخل الماء فيها إلى القصر حتى ينلنه في المرافق والمنافع فبينا هنّ يغسلن في تلك الفرضة إذ جاء التابوت فحملته إلى مولاتهن، وقال ابن إسحاق: رآه فرعون يعوم فأمر بسوقه وآسية جالسة معه فكان ما تقدم، وقوله تعالى: {ليكون لهم عدواً وحزناً} هي لام العاقبة لا أن المقصد بالالتفاظ كان لأن يكون عدواً، وقرأ الجمهور «وحَزَناً» بفتح الحاء والزاي. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش «وحُزْناً» بضم الحاء وسكون الزاي، و«الخاطئ» متعمد الخطأ، والمخطئ الذي لا يتعمده، واختلف المتأولون في الوقت الذي قالت فيه امرأة فرعون {قرة عين لي ولك}، فقالت فرقة: كان ذلك عند التقاط التابوت لما أشعرت فرعون به سبق إلى وهمه أنه من بني إسرائيل وأن ذلك قصد به ليخلص من الذبح فقال عليّ بالذباحين فقالت امرأته ما ذكر فقال فرعون: أما لي فلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم «لو قال فرعون نعم لآمن بموسى ولكان قرة عين له»، وقال السدي: بل ربته حتى درج فرأى فرعون فيه شهامة وظنه من بني إسرائيل وأخذه في يده فمد موسى يده ونتف لحية فرعون فهم حينئذ بذبحه وحينئذ خاطبته بهذا وجربته له في الجمرة والياقوته فاحترق لسانه وعلق العقدة، وقوله {لا يشعرون} أي بأنه الذي يفسد الملك على يديه قال قتادة وغيره، وقرأ ابن مسعود «لا تقتلوه قرة عين لي ولك» قدم وأخر، وقوله {وأصبح} عبارة عن دوام الحال واستقرارها وهي كظل، ومنه قل أبي سفيان للعباس يوم الفتح: لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً يريد استقرت حاله عظيماً. وقرأ جمهور الناس «فارغاً» من الفراغ واختلف في معنى ذلك فقال ابن عباس: «فارغاً» من كل شيء إلا من ذكر موسى، وقال مالك: هو ذهاب العقل. قال الفقيه الإمام القاضي: نحو قوله {وأفئدتهم هواء} [إبراهيم: 43] وقالت فرقة «فارغاً» من الصبر، وقال ابن زيد «فارغاً» من وعد الله تعالى ووحيه إليها أي تناسته بالهم وفتر أثره في نفسها وقال لها إبليس فررت به من قتل لك فيه أجر وقتلته بيدك، وقال أبو عبيدة «فارغاً» من الحزن إذ لم يغرق، وقرأ فضالة بن عبد الله ويقال ابن عبيد والحسن «فزعاً» من الفزع بالفاء والزاي، وقرأ ابن عباس «قرعاً» بالقاف والراء من القارعة وهي الهم العظيم، وقرأ بعض الصحابه رضي الله عنهم «فِزْغاً» بالفاء المكسورة والراء الساكنة والغين المنقوطة ومعناها ذاهباً هدراً تالفاً من الهم والحزن، ومنه قول طليحة الأسدي في حبال أخيه: [الطويل] فإن تك قتلى قد أصيبت نفوسهم *** فلن يذهبوا فرغاً بقتل حبال أي هدراً تالفاً لا يتبع، وقرأ الخليل بن أحمد «فُرُغاً» بضم الفاء والراء. وقوله تعالى: {إن كادت لتبدي به} أي أمر ابنها، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كادت أم موسى أن تقول واإبناه وتخرج صائحة على وجهها» و«الربط على القلب» تأنيسه وتقويته، ومنه قولهم للشجاع والصابر في المضايق: رابط الجأش، قال قتادة: وربط على قلبها بالإيمان، وقوله {لتكون من المؤمنين} أي من المصدقين بوعد الله وما أوحى إليها به، ثم قالت لأخت موسى طمعاً منها وطلباً، {قصيه}، والقص طلب الأثر، فيروى أن أخته خرجت في سكك المدينة تبحث مختفية بذلك فرأته عند قوم من حاشية امرأة فرعون يطلبون به امرأة ترضعه حين لم يقبل المراضع، و{عن جنب} أي عن ناحية من غير قصد ولا قرب يشعر لها به، يقال فيه جنب وجناب وجنابة ومن جناب قول الشاعر: [الطويل] لقد ذكرتني عن جناب حمامة *** بعسفان أهلي فالفؤاد حزين ومن جنابة قول الأعشى: [الطويل] أتيت حريثاً زائراً عن جنابة *** فكان حريث عن عطائيَ جامدا قال الفقيه الإمام القاضي: وكأن معنى هذه الألفاظ عن مكان جنب أي عن بعد ومعنى الآية عن بعد لم تدن منه فيشعر لها، وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن عبدة: [الطويل] فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابة *** فإني امرؤ وسط القباب غريب وقرأ قتادة «عن جَنْب» بفتح الجيم وسكون النون وهي قراءة الحسن والإعرج، وقرأ «عن جانب» النعمان بن سالم، وقرأ الجمهور «عن جُنُب» بضم الجيم والنون، وقوله {وهم لا يشعرون}، معناه أنها أخته وأنها من جملة لطائف الله تعالى له ولأمه حسب الوعد الذي أوحي إليها، ويقال: بصرت الشيء وأبصرته بمعنى واحد متقارب، قال المهدوي: وقيل {عن جنب} معناه عن شوق وهي لغة لجذام يقولون جنبت إلى لقائك أي اشتقت إليه، وقال قتادة: معنى {عن جنب} أنها تنظر إليه كأنها لا تريده.
|